كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فدل بالنظير على النظير، وقرب أحدهما من الآخر جدًّا بلفظ الإخراج، أي يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومنه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} [القيامة: 36- 40] فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان الذكر والأنثى، وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما شاء، ونبه سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار، وسوقها في مراتب الكمال، من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها، حتى صارت بشرًّا سويًا في أحسن خلقة وتقويم، على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملًا معطلًا. لا يأمره ولا ينهاهـ. ولا يقيمه في عبوديته، وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرًّا سويًا، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقًا بعد طبق، وحالًا بعد حال، إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم، وينظر إلى وجهه، ويسمع كلامه إلى آخر كلام ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه أطال في ذكر الأمثلة على النحو المذكور، ولم نذكر جميع كلامه خوفًا من الإطالة المملة، وفيما ذكرنا من كلامه تنبيه على ما لم نذكره، وقد تكلم على قياس الشبه فقال فيه: وأما قياس الشبه فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين.
فمنه قوله تعالى إخبارًا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم. {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] فلم يجمعوا بين الفرع والأصل بعلة ولا دليلها، وإنما ألحقوا بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف، فقالوا هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة، وذلك قد سرق فكذلك هذا، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الإخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كان حقًّا ولا دليل على التساوي فيها فيكون الجمع لنوع شبه خال من العلة ودليلها.
ثم ذكر رحمه الله لقياس الشبه الفاسد أمثلة أخرى في الآيات الدالة على أن الكفار كذبوا الرسل بقياس الشبه حيث شبهوهم بالبشر، وزعموا أ، ذلك الشبه مانع من رسالتهم. كقوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشرًّا مِّثْلَنَا} [هود: 27]، وقوله تعالى عنهم: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} [المؤمنون: 33] الآية. إلى غير ذلك من الآيات. فالمشابهة بين الرسل وغيرهم في كون الجميع بشرًّا لا تقتضي المساواة بينهم في انتفاء الرسالة عنهم جميعًا، ولما قالوا للرسل {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [يس: 15] أجابوهم بقولهم: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولَكِن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]. وقياس الكفار الرسل على سائر البشر في عدم الرسالة قياس ظاهر البطلان. لأن الواقع من التخصيص والتفضيل، وجعل بعض البشر شريفًا وبعضه دنيا وبعضه مرؤوسًا وبعضه رئيسًا وبعضه ملكًا. وبعضه سوقًا يبطل هذا القياس. كما أشار إليه جواب الرسل المذكور آنفًا، يشير إليه قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سخريًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] وهذه الأمثلة من قياس الشبه ليس فيها وصف مناسب بالذات ولا بالتبع. فلذلك كانت باطلة.
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله: أن جميع الأمثال في القرآن كلها قياسات شبه صحيحة. لأن حقيقة المثل تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر. ثم سرد الأمثال القرآنية ذلك فيها واحدًا واحدًا، وأطال الكلام في ذلك فأجاد وأفاد.
وقال في آخر كلامه: قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس، والجمع والفرق، واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرًا واستدلالًا. قالوا: وقد ضرب الله سبحانه الامثال، وصرفها قدرًا وشرعًا، ويقظة ومنامًا، ودل عباده على الاعتبار بذلك. وعبورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير. بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة، ونوع من أنواع الوحي. فإنها مبنية على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس.
ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين! فما كان فيها من طول أو قصر، أو نظافة أو دنس فهو في الدين. كما أول النَّبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس.
ومن هذا التأويل اللبن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة، وأن الطفل إذا خلى وفطرته لم يعدل عن اللبن. فهو مفطور على إيثاره على ما سواهـ. وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس.
ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض، كما أن البقر كذلك، مع عدم شرها وكثرة خيرها، وحاجة الأرض وأهلها إليها. ولهذا لما رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم بقرًا تنحر كان ذلك نحرًا في أصحابه.
ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل. لأن العامل زارع للخير والشر، ولابد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره، فالدنيا مزرعة، والأعمال البذر، ويوم القيامة يوم طلوع الزرع وحصاده.
ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين، والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ولا ظل ولا ثمر، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك. ولهذا شبه تعالى المنافقين بالخشب المسندة. لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير. وفي كونها مسندة نكتة أخرى: وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكًا فارغًا غير منتفع به جعل مسندًا بعضه إلى بعض. فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها إلى آخر كلامه رحمه الله. وقد ذكر أشياء كثيرة من عبارة الرؤيا فأجاد وأفاد رحمه الله، وكلها راجعة إلى اعتبار النظير بنظيره، وذلك كله يدل دلالة واضحة على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: فهذا شرع الله وقدره ووحيه، وثوابه وعقابه، كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المثل بالمثل: ولهذا يذكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة. والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية. ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت، واقتضائها لأحكامها، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف آثارها عنها، قكوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4]، {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12]، {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُوًا} [الجاثية: 35]، {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر} [محمد: 26]، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23].
وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة، وباللام تارة، وبـ: أن تارة وبمجموعهما تارة، وبـ: كَيْ تارة ومِنْ أجْلِ تارة، وترتيب الجزاء على الشرط تارة! وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة، وبـ: لما تارة، وبـ: أن المشددة تارة وبـ: لعل، وبالمفعول له تارة.
فالأول كما تقدم. واللام كقوله: {ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وما فِي الأرض} [المائدة: 97]، وأن كقوله: {أَن تقولوا إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]. ثم قيل: التقدير لئلا تقولوا، وقيل كراهة أن تقولوا. وأن اللام كقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] وغالب ما يكون هذا النوع في النفي فتأمله. وكي كقوله: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] والشرط والجزاء كقوله: {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، والفاء كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكِناهُمْ} [الشعراء: 139]، {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} [الحاقة: 10]، {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16]، وترتيب الحكم على الوصف كقوله: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16]، وقوله: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} [الأعراف: 170]، {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 56]، {الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 52]، ولما كقوله: {فَلَمَا آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]. {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]. وإن المشددة كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77]، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74]. ولعل كقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44]، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] والمفعول له كقوله: {وما لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} [الليل: 19- 21] أي لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس: وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى. ومن أجل كقوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32].
وقد ذكر النَّبي صلى الله عليه وسلم علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها ليدل على ارتباطها بها: وتعديها بتعدي أوصافها وعللها كقوله في نبيذ التمر «تمرة طيبة. وماء طهور» وقوله «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» وقوله: «إنما نهيتكم من أجل الدافة» وقوله في الهرة «ليست بنجش إنها من الطوافين عليكم والطوافات»، ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب: وقوله «فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» وقوله «إنكم إذا فعلتم ذلكم قطعتم أرحامكم» ذكره تعليلًا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء فِي المحيض} [البقرة: 222]، وقوله في الخمر والميسر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] وقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر «أينقص الرطب إذا جف»؟ قالوا نعم. فنهى عنه. وقوله: «لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه» وقوله: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء» وقوله: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس» وقال وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء «هل هو إلا بضعة منك» وقوله في ابنة حمزة «إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة»، وقوله في الصدقة: «إنها لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» وقد قرب النَّبي صلى الله عليه وسلم الأحكام لأمته بذكر نظائرها وأسبابها، وضرب لها الأمثال. إلى آخر كلامه رحمه الله.
وقد ذكر فيه أقيسة فعلها النَّبي صلى الله عليه وسلم. منها قياس القبلة على المضمضة في حديث عمر المتقدم. وقياس دين الله على دين الآدمي في وجوب القضاء. وقد قدمناه مستوفى ما قبله في سورة بني إسرائيل.
ومنها قياس العكس في حديث: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر» وقد قدمناه مستوفى في سورة التوبة.
ومنها قصة الذي ولدت امرأته غلامًا أسود، وقد قدمنا ذلك مستوفى في سورة بني إسرائيل.
ومنها حديث المستحاضة الذي قاس فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم دم العرق الذي هو دم الاستحاضة على غيره من دماء العروق التي لا تكون حيضًا. وكذل ذلك يدل على أن إلحاق النظير بالنظير من الشرع، لا مخالف له كما يزعمه الظاهرية ومن تبعهم.
المسألة الرابعة:
اعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجتهدون في مسائل الفقه في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم، وبعد وفاته من غير نكير. وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى أمثلة كثيرة لذلك.
فمن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق وقال: لم يرد منا تأخير العصر، وإنما أراد سرعة النهوض. فنظروا إلى المعنى. واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلًا. وقد نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر. وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس.
ومنها أن عليًّا رضي الله عنه لما كان باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام. فقال كل منهم: هو ابني. فأقرع بينهم، فجعل الولد للقارع وجعل عليه الرجلين الآخرين ثلثي الدية. فبلغ ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء على رضي الله عنه.
ومنها اجتهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه في حكمه في بني قريظة، وقد صوبه النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات».
ومنها اجتهاد الصحابيين اللذين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر. فصوبهما النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك»، وقال للآخر: «لك الأجر مرتين».
ومنها اجتهاد مجزز المدلجي بالقيافة، قوال: إن أقدام زيد وأسامة بعضها من بعض، وقد سر النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك حتى برقت أسارير وجهه. وذلك دليل على صحة إلحاق ذلك القائف الفرع بالأصل، مع أن زيدًا أبيض وأسامه أسود. فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله. وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم.
ومنها اجتهاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الكلالة قال: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر قال: إني لأستحيي من الله أن أرد شيئًا قاله أبو بكر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومن أغرب الأشياء عندي ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أشار له إلى معنى الكلالة إشارة واضحة جدًّا. ولم يفهمها عنه مع كمال فهمه وعلمه، وأن الوحي ينزل مطابقًا لقوله مرارًا. وذلك أنه رضي الله عنه قال: ما سألت النَّبي صلى الله لعيه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: «تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء» وهذا الإرشاد من النَّبي صلى الله عليه وسلم واضح كل الوضوح في أنه يريد: أن الكلالة هي ما عدا الولد والوالد. لأن آية الصيف المكذورة التي أخبره أنها تكفيه دلت على ذلك دلالة كافية واضحة فقوله تعالى فيها: {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] صريح في أن الكلالة لا يكون فيها ولد. وقوله فيها: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] يدل بالالتزام على أنها لا أب فيها، لأن الإخوة والأخوات لا يرثون مع الأب. وذلك مما لا نزاع فيه. فظهر أن آية الصيف المذكورة تدل بكل وضوح على أن الكلالة ما عدا الولد والوالد، ولم يفهم عمر رضي الله عنه الإشارة النبوية المذكورة، فالكمال التام له جل وعلا وحده، سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا.